تحجيم الحصانة

منذ صغري، عودني والدي أن استميت في الدفاع عما أراه صالحًا لوطني ولشعبي الذي انتمي إليه، وبمرور كل تلك السنوات، لم انس يومًا هذه المبادئ، وأفعل كل ما بوسعي لنصرة أي فكرة أو هدف نبيل، وأفعل كل ما بوسعي أيضًا للوقوف أمام ما أراه خاطئًا لنا جميعًا، ولعل ذلك الدافع الأساسي لأن أكتب هذا المقال، رغم أنني تناولت موضوعه أكثر من مرة.

فالحديث عن "الحصانة الجنائية" لأعضاء مجلس النواب من أهم المطالبات التي ظللت أنادي بها خلال السنوات الماضية، حيث أرى ضرورة إلغائها أو على أقل تقدير أن تكون الحصانة مشروطة ومحددة بحق العضو فى انتقاد الحكومة وإظهار الفساد وليس فى حمايته من أخطائه.

كما أنني أرى أن إقرار وتطبيق مثل هذه الحصانة الجنائية، كما كانت تُطبق في السنوات الماضية، واستغلال النواب لها لجني المليارات وفعل أي شئ دون مراقبة أو محاسبة، أصبح ضربًا من ضروب الخطـأ، فدعنا نتفق يا عزيزي القارئ بأن هذه الفترة التي يمر بها الوطن، من أصعب الفترات التي قد يكون مر بها، وتكمن صعوبتها في عدم وضوح نوايا العديد من الأطراف المتداخلة بشكل كبير في الحياة السياسية الآن.

وأنا لا أشكك بالجميع ودائمًا ما افترض حسن النية، ولكنني أمام مصلحة هذا الوطن أتخلى عن القاعدة الحياتية التي تقول "افترض حسن النية حتى يثبت العكس"، بالإضافة إلى وجود فئات بعينها أثبتت بدخولها المعترك الانتخابي لمجلس النواب أنها تريد أن تحقق أقصى استفادة لأنفسهم فقط، وقد تتمثل هذه الاستفادة في التمتع بما توفره الحصانة الجنائية لأعضاء البرلمان؛ فالمادة (113) بدستور 2014 تعني بعدم جواز اتخاذ أي إجراءات جنائية ضد أي عضو من أعضاء البرلمان في غير حالة التلبس بالجريمة إلا بعد إذن المجلس، وهذه هي الحصانة الجنائية التي أطالب بإلغائها أو تقنينها في أضيق الحدود.

وأعني بتقنينها هنا بأن تصبح «حصانة سياسية» فقط .. ليكون تحصين النائب في كل الإجراءات والآراء السياسية التي يتخذها أو يعمل بها، فإن تم اتهامه بأي تهمة – خلاف السياسة - تتم محاكمته كأي مواطن عادي دون انتظار التلبس أو إذن المجلس.

ولكن لنكن واقعيين وصريحيين مع أنفسنا، فالإقرار بتواجد الحصانة الجنائية منصوص عليه داخل مواد الدستور الذي يسري علينا جميعًا، والذي يعد بمثابة "أبو القوانيين"، ولا يتم تغيير أي مادة من مواده إلا من خلال "تعديل دستوري". ولكن حتى يتم ذلك، هل سنقف هكذا وننتظر حدوث وقائع الاستغلال التي شاهدناها جميعًا على مر السنوات الماضية؟!.. في نظري بالطبع لا.. بالتأكيد هناك طريقة ما تعمل على تحجيم سريان هذه الحصانة، وهذا الشئ هو اللائحة الداخلية لمجلس النواب.

فاللائحة الداخلية لمجلس النواب تتضمن -في الباب الثاني عشر منها، بالفصل الثالث "الحصانة البرلمانية"- عدد من المواد المتعلقة بآلية تطبيق هذه الحصانة، وهذه المواد هي: (359، 360،361، 363)؛ فالمادة (359) تنص على "لايجوز أثناء دور انعقاد مجلس الشعب - فى غير حالة التلبس بالجريمة - أن تتخذ ضد أى عضو من أعضائه أية إجراءات جنائية إلا بإذن سابق من المجلس. وفى غير دور انعقاد المجلس، يتعين لاتخاذ أي من هذه الإجراءات أخذ إذن رئيس المجلس ، ويخطر المجلس عند أول انعقاد بما اتخذ من إجراء في هذا الشأن".

وتنص المادة (360) على :"يقدم طلب الإذن برفع الحصانة عن العضو إلى رئيس المجلس من وزير العدل، أو من المدعي العام الاشتراكي فيما يدخل في اختصاصه قانونًا، أو ممن يريد رفع دعوى مباشرة ضد العضو أمام المحاكم الجنائية. ويجب أن يرفق وزير العدل أو المدعي العام الاشتراكي بالطلب أوراق القضية المطلوب اتخاذ إجراءات فيها، كما يتعين على من يريد رفع دعوى مباشرة أن يرفق صورة من عريضة الدعوى المزمع رفعها مع المستندات المؤيدة لها. ويحيل الرئيس الطلب المذكور ومرفقاته إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية وله إحالته في ذات الوقت إلى لجنة القيم لبحثه وإبداء الرأى فيه للجنة المذكورة. ويجب على لجنة الشئون الدستورية والتشريعية إعداد تقريرها بشأن طلب رفع الحصانة خلال خمسة عشر يوما على الأكثر من تاريخ إحالة الأوراق إليها".
وتنص المادة (361) على :"ليس للعضو أن ينزل عن الحصانة دون إذن المجلس وللمجلس أن يأذن للعضو بناء على طلبه بسماع أقواله إذا وجه ضده أي اتهام ولو قبل أن يقدم طلب رفع الحصانة عنه، ولايجوز في هذه الحالة اتخاذ أية إجراءات أخرى ضد العضو، إلا بعد صدور قرار من المجلس بالإذن بذلك طبقا لأحكام المواد السابقة".

أما المادة :( 363) فتنص على :"لا تنظر اللجنة، ولا المجلس فى توافر الأدلة أو عدم توافرها للإدانة فى موضوع الاتهام الجنائى أو التأديبي أو في الدعوى المباشرة من الوجهة القضائية ، ولا فى ضرورة اتخاذ إجراءات الفصل بغير الطريق التأديبى قبل العضو، ويقتصر البحث على مدى كيدية الادعاء أو الدعوى أو الإجراء، والتحقق مما إذا كان يقصد بأي منها منع العضو من أداء مسئولياته البرلمانية بالمجلس. ويؤذن دائمًا باتخاذ الإجراءات الجنائية أو التأديبية أو برفع الدعوى الجنائية المباشرة متى ثبت أن الدعوى أو الإجراء ليس مقصودا بأي منهما منع العضو من أداء مسئولياته البرلمانية بالمجلس. كما يؤذن دائما باتخاذ الإجراءات المتعلقة بانهاء الخدمة بغير الطريق التأديبى قبل العضو متى تبين انها لايقصد بها الكيد له بسبب مباشرته لمسئولياته البرلمانية أو تهديده أو منعه من مباشرة هذه المسئوليات بالمجلس ."

وبعد أن رصدت لك عزيزي القارئ هذه المواد من اللائحة الداخلية، إذن دعنا نفسرها سويًا ، فطبقًا لتسلسل المواد السابقة فإنه أولًا لايجوز اتخاذ أي إجراءات جنائية ضد أي عضو من أعضاء البرلمان في غير حالة التلبس بالجريمة إلا بعد إذن المجلس، ثانيًا، في حال تقدم وزير العدل أو أي شخص بطلب لرفع الحصانة عن النائب؛ فإنه على وزير العدل أن يرفق الطلب بأوراق القضية، كما يجب على من قام برفع دعوى أن يقدم صورة من عريضة الدعوى المزمع رفعها مع المستندات المؤيدة لها.

ثالثًا تحال هذه الطلبات إلى اللجنة التشريعية، ثم تحدد اللجنة موعدا لمناقشة الطلب، وتستدعي العضو المطلوب رفع الحصانة عنه للاستماع إلى أقواله، فيبادر العضو بتقديم طلب إلى رئيس المجلس للإذن له بسماع أقواله فى القضية، وهذا الإجراء يعتبره خبراء القانون تحايل على رفع الحصانة، وبعد الموافقة على طلب النائب بسماع أقواله يحظر توجيه اتهامه أو سؤاله من النيابة، وتضطر النيابة إذا أرادت أن توجه اتهامًا إلى النائب إلى تقديم طلب جديد برفع الحصانة عن طريق وزير العدل، ويذهب الطلب إلى اللجنة التشريعية، ويدلي النائب بأقواله مرة أخرى ويدعو زملاءه لمساندته أمام اللجنة، ويصر النواب على عدم رفع الحصانة بحجة وجود شبهة كيدية فى أوراق الدعوى، هدفها تعطيل النائب عن أداء مهامه، ويصوت النواب برفض طلب رفع الحصانة.

رابعًا في حال موافقة اللجنة على طلب رفع الحصانة، وأعدت تقريرًا بالموافقة فإن تقريرها يعرض على المجلس لتصويت ثلثي الأعضاء عليه فإذا رفضوا يعلن رئيس المجلس رفض الطلب نهائيًا، وتستمر هذه الدورة إلى أن ينتهى الفصل التشريعي.

وإذا تم تعديل اللائحة الداخلية بما يتلائم مع المادة (133) بالدستور، سنتجنب مخاطر الحصانة الجنائية، وسنمنع استغلال النواب لها، وكل ذلك سيتم إذا نجحنا في تطبيق دولة القانون، التي يسعى رئيسنا السيسي إلى بنائها.


وفي النهاية اتمنى أن يكون مجلس النواب المقبل مخلصًا لهذا الوطن وممثلًا حقيقيًا لشعبه، ويسعى إلى تحقيق مطالب الجميع، وليس مطلبه هو فقط من خلال استغلاله كونه "نائب" بالبرلمان.


الموضوع منشور بجريدة الأهرام بتاريخ 22 سبتمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق