"صناديق خاصة جداً" مليارات خارج الموازنة العامة .. مَن يراقب؟ ومَن يحاسب؟

بعد ثورة يناير 2011 طالب العديد من المصريين -وأنا من ضمنهم- بالإفصاح عن حقيقة "الصناديق والحسابات الخاصة"، لأنها كانت بمثابة لغز محير أمامنا جميعاً، فلم نكن نعلم عددها ولا حجم الأموال الموجودة فيها ولا فيما تٌنفق. فالصناديق الخاصة هي أوعية موازية تكون لدى الوزارات والهيئات العامة والأحياء وغيرها من المنشآت، وتنشأ بقرار جمهوري وبموافقة مجلس الوزراء، وهدفها الأساسي هو تحسين الخدمات التي تقدمها هذه الجهات (مثل رصف الطرق ومشروعات المياه والصرف الصحي وغيرها). 

وحصيلة الأموال التي تدخل إلى هذه الصناديق يدفعها المواطنين المصريين من كافة الطبقات وأغلبهم من الفقراء، فهي يتم تمويلها من الرسوم (مثل: تذاكر زيارات المرضى، والكارتة التي يدفعها سائقو سيارات السرفيس) والدمغات (لاستخراج بطاقة الرقم القومي وجواز السفر وغيرها من المستندات الرسمية)، وهذه الحصيلة لا تدخل إلى خزينة الدولة ولا علاقة للموازنة العامة بها، وبالتالي لا يناقشها مجلس الشعب. وبالبحث عن الجهة الرقابية التي تراقب هذه الصناديق والحسابات نجد تضارباً، فوفقاً للمادة 7 من القانون رقم 10 لعام 1981 تخضع هذه الصناديق للرقابة من قبل الهيئة العامة للرقابة المالية، ولكننا نجد أن الجهة التي تصدر تقارير رقابية عن هذه الصناديق هي الجهاز المركزي للمحاسبات.

 ولكن ما هو الواقع فيما يخص هذه الصناديق الخاصة؟!! .. الواقع أن الكثير منها خرج عن الأغراض المخصصة لها، فالتقارير كشفت أن الإنفاق على شراء هدايا ومكافآت وبدلات لبعض العاملين يمثل نحو 95% من حجم الإنفاق الخاص ببعض تلك الصناديق والحسابات الخاصة، ويقوم بعض القائمين عليها بإنفاق أموالها –التي هي أموال الشعب- على تجديد مكاتبهم وتغيير ديكوراتها، والاحتفالات، ومصروفات ضيافة للوفود، وفي نشر إعلانات التهاني والتعازي، وتشغيل المستشارين المختارين علي سبيل المجاملة، وإنشاء مشروعات لا يستفاد منها في كثير من الاحيان؛ أي أن العديد من مصاريف هذه الصناديق تكون دون مقتضي قانوني لصرفها، كما أن الخدمات والأنشطة التي تقوم بها الحسابات والصناديق الخاصة تقوم بها جهات أخرى ، مما يخلق إزدواجية في المهام والاختصاصات. وقد اكتشفنا بعد الثورة أنه خلال الـ20 سنة الأخيرة غابت عن هذه الصناديق الرقابة والمساءلة سواء قبل الصرف أو بعده، وبالتالي أصبحت للأسف وسيلة لنهب المال العام وإهداره، بدلاً من استخدامها في تنمية المجتمع.

 ومؤخراً وجدنا سيادة رئيس الجمهورية/ عبد الفتاح السيسي يستكمل جهوده المتواصلة من أجل زيادة موارد الدولة، وتقليل العجز في الموازنة العامة، وذلك من خلال القرار الجمهوري بتحويل نسبة 10% من الإيرادات الشهرية للصناديق والحسابات الخاصة إلى الخزانة العامة للدولة، والتي تعد خطوة جيدة ومبشرة، وإجراء هام في سلسلة الإجراءات التي يتخذها الرئيس لإنقاذ الاقتصاد المصري، خاصةً في هذه المرحلة المهمة والحرجة في نفس الوقت التي نود أن تمر بسلام، ولكنني هنا أرى أنه يوجد تحديات قد تواجه هذا القرار، فمبدئياً نحن لازلنا لا نعلم ما هو العدد الحقيقي للصناديق الخاصة الموجودة في الدولة بالضبط، وما هو حجم الأموال الموجودة بهذه الصناديق لكي نستطيع أن نأخذ 10% منها، فبالرغم من تكرار مطالباتنا نحن وكافة المخلصين للبلد منذ أكثر من 4 سنوات بضرورة الإفصاح عن تفاصيل هذه الحسابات والصناديق وموارد دخلها وبنود إنفاقها ولكن للأسف لم يوجد أدنى إستجابة لنا ولمطالباتنا، وكأن هذه المليارات ليست أموال الشعب.

 ونحن نتساءل لماذا تخفي الحكومات المتعاقبة المعلومات الخاصة بهذه الصناديق والمشروعات التي تتم بناء عليها وتعرّض نفسها للنقد الدائم؟ .. هل هي حالة من عدم المعرفة أم عدم الشفافية أم الاثنين معاً؟!! .. فخلال الفترة الماضية نجد تضارب في تصريحات كبار المسئولين في الدولة حول عدد الصناديق الخاصة وحجم الأموال الموجودة بها فيما بين الجهات المختلفة مثل الجهاز المركزي للمحاسبات أو وزارة المالية أو مجلس الوزراء.

إن الصناديق الخاصة يمكنها أن تضيف لموارد الدولة وأن تساعد على إنشاء المشروعات الاقتصادية المختلفة التي تحسن من المناخ الاقتصادي في مصر، كما يمكنها أن تساعد في تخفيف العجز بالموازنة والتضخم، الأمر الذي من شأنه أن يحسن من توظيف موارد الدولة لخدمة المواطنين في مختلف المجالات الصحية والتعليمة وغيرها، وهو أمر ينشده كل وطني مخلص، وأنا أرى أن ضم 10% من إيرادات الصناديق الخاصة للموازنة العامة أمر محمود ولكنه غير كافي، خاصةً وأن الخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن جميع إيرادات الدولة فى جميع دول العالم تدخل ميزانية الدولة والمصروفات تخرج من ميزانية الدولة.

 وعلى الرغم من ضبابية المشهد الخاص بهذه الصناديق، إلا أنه توجد رغبة كبيرة لدى المصريين بأن يتم الإستفادة من هذه الصناديق، ومن هنا أود أن أوصي بضرورة حصر الصناديق والحسابات الخاصة، بعدها يتم دراسة كل صندوق قانونياً ومحاسبياً، ولابد من الشفافية في عرض العدد الحقيقي لهذه الصناديق والحسابات، وكم الأموال والإيرادات الموجودة فيها ومصادر تمويلها، وأوجه صرفها..فهل يتم إنفاقها على مشروعات وخدمات فعلاً أم على حوافز وخلافه؟! .. بالإضافة إلى أهمية الكشف عن الموقف القانوني لكل صندوق/حساب، بحيث يعلمها كل المصريين.

وأقترح أن يتم تصفية حسابات كافة الصناديق والحسابات الخاصة وإيداعها في الموازنة العامة للدولة، وأوصي أيضاً بتيسير الإجراءات والقوانين الخاصة بالمشروعات الخدمية والتنموية التي تم إنشاء هذه الصناديق بسببها، فكما ذكرت مسبقاً الفكرة من هذه الصناديق كانت للتغلب على البيروقراطية والروتين الحكومي الذي يتسبب في أن يتم تنفيذ الخدمات للمواطنين بعد سلسلة طويلة من الإجراءات وفي إطار بعض القوانين التي تتسم للأسف بالجمود؛ وعندما يتم تحقيق ذلك سنستطيع صرف هذه الأموال التي كنت تعود على الصناديق الخاصة في تنفيذ مشروعات تنمويه يحتاجها الشعب، وفي إطار رقابة محكمة مثل تلك الموجودة على الموازنة العامة للدولة.

 أيضاً فإن ضم الصناديق والحسابات الخاصة للموازنة العامة سيساعد في مزيد من الاستقلالية الاقتصادية لمصر، فمثلاً نجد أن أغلب الأرقام التي قيلت بشأن الأموال الموجودة في هذه الصناديق تتخطى قيمة قرض صندوق النقد الدولي الذي يرى البعض فيه خلاص مصر من الوضع الاقتصادي المتأزم، فبينما تعادل قيمة القرض 30 مليار جنيه تقريباً يقول الخبراء أن الأموال الموجودة بالصناديق الخاصة تتعدى هذه القيمة بكثير، مما يجعلنا قادرين على الإستغناء نهائياً عن هذا القرض، والأمر ذاته ينطبق على كل ما قد يجعل مصر أقل تحرراً فيما يخص الاقتصاد.

كما أؤكد مرة أخرى أنه ينبغي الإفصاح بشفافية عن كل ما يتعلق بالصناديق والحسابات الخاصة التي تم بالفعل إنشائها طوال السنوات الماضية، لأن من حق المواطن الذي يمول هذه الصناديق أن يعرف أين تذهب فلوسه وفيما تنفق؟؟. وفي النهاية أشدد على أن مصر تشهد اليوم مرحلة جديدة وفارقة في تاريخها، وبالتالي لا يجوز فيها الاستمرار في الوقوع في نفس أخطاء الأنظمة السابقة، ومن هنا ألخص كلامي -الذي ينبع من حرصي على مصلحة البلاد وشعبها- في أن أهيب بالمسئولين ضرورة إعادة النظر في مسألة الصناديق والحسابات الخاصة، بحيث يتم ضمها كلها للموازنة العامة والرقابة على مواردها ومصارفها، وفي نفس الوقت لابد من مراعاة تيسير الإجراءات والقوانين والتخلص من الروتين والبيروقراطية التي عانينا منها طوال السنوات الماضية، فعند تيسير إجراءات تقديم الخدمات للمواطن لن نكون بحاجة لآلية بديلة مثل الصناديق الخاصة، وأطالبكم مرة أخرى بالإلتزام بالشفافية مع المواطن الذي يمول هذه الصناديق وكان من المفترض أن يستفيد منها، ومحاسبة أي شخص مسئول عنها حدث منه إهدار لهذا المال العام أو فساد، وأخيراً أقول مصر فوق الجميع ولا أحد فوق القانون أو المحاسبة.


تم نشر هذا الموضوع على محيط بتاريخ 8 يوليو 2015



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق